حين يختلط الحبر بالدم.. كيف نكمل الكتابة؟

أتخيل..
كنا مجموعة من الصحفيين بعد يومٍ طويل من التغطية، بعضنا صامت، وبعضنا يضحك بجهدٍ يشبه البكاء. تساءل أحدنا: هل ما زال فينا ما يكفي من الشعور؟
ردّ آخر: ربما صرنا نكتب أكثر مما نحسّ.
وساد صمتٌ طويل، كأن كلّ واحدٍ فينا راح يتفحّص قلبه ليتأكد أنه ما زال ينبض.
تحدثنا عن التقارير، وعن العدالة، وعن المهنة التي أحببناها ثم أتعبتنا، واتفقنا في النهاية على شيءٍ واحد: أن الصحافة، رغم كل ما تغير، لا تزال فعلًا إنسانيًا أولًا.. قبل أن تكون مهنة.
ما بين المهنة والرسالة
في زمنٍ يزداد فيه الضجيج، يصبح الصوت الإنساني هو المعجزة الأخيرة الممكنة. الصحافة لم تكن يومًا مهنة باردة تقتات على العناوين العاجلة، بل هي فعل إنساني عميق، يبدأ من السؤال وينتهي بالمسؤولية. كل خبرٍ نحمله على الهواء، كل صورة نختارها، وكل كلمة نكتبها، هي قرار أخلاقي قبل أن تكون مهنية.
الكتابة كنجاة
أحيانًا أشعر أن الصحافة تشبه غرفة الطوارئ: كل شيء فيها سريع، متوتر، ومشحون بالألم. لكن وسط الهرج، هناك من يمدّ يده ليُنقذ الحقيقة قبل أن تموت تحت الركام. نكتب عن الحرب ونحن نرتجف من فكرة أن من نحاوره قد لا يكون حيًا غدًا. نصوّر المشهد ونحاول ألّا نبكي، نحرص على التوازن بينما داخلنا مختلّ تمامًا. ورغم كل هذا، يبقى شيء فينا يصرّ على الكتابة، لأن التوثيق أحيانًا هو الشكل الأخير من أشكال المقاومة.
إنسان قبل أن تكون صحفيًا
في الصحافة، لا يكفي أن تكون شاهدًا جيدًا، يجب أن تكون إنسانًا أولًا. أن تمتلك شجاعة النظر في عيون الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن دون أن تُسقط الكاميرا من يدك. أن تتذكّر أن كل رقمٍ في نشرةٍ إخبارية هو حياة، بيت، صوت، وربما رسالة لم تكتمل. وفي اللحظة التي تنسى فيها ذلك، تفقد الصحافة معناها، وتتحول إلى آلة تبثّ الوقائع دون أن تنقل الوجع.
اختبار القوة
أصعب ما في هذه المهنة أنك مطالَب بأن تكون قويًا دائمًا. أن تخفي إنسانك خلف موضوعيتك. أن تتعامل مع المأساة ببرود ظاهر بينما قلبك يذوب من الداخل. ومع ذلك، هناك ما يدفعنا للاستمرار، ربما الإيمان بأن نقل الحقيقة، ولو مرة واحدة، يمكن أن ينقذ روحًا في مكانٍ ما.
حين نكتب لنُبقي المعنى حيًا
كلما فقدت الحماسة أو أرهقني المشهد، أعود إلى الفكرة الأولى: الصحافة ليست مهنة تبحث عن الضوء، بل مهنة تمشي نحوه.
نحن لا نكتب لنظهر، بل لنُبقي شيئًا من إنسانيتنا على قيد الحياة.. نكتب كي لا يختفي الصوت بين الركام، كي تظل الحكاية ممكنة، وكي لا يُقال يومًا إن العالم رأى وسكت.. نكتب لا لنُبرّر الواقع، بل لنقول ببساطة:
إننا ما زلنا نحسّ.
