"أقرب من البعيد بقليل".. حين شعرتُ أن الكلمات تعرفني أكثر مما أعرفها

"أقرب من البعيد بقليل".. حين شعرتُ أن الكلمات تعرفني أكثر مما أعرفها

أن تقرأ هذا الكتاب، يعني أن تقف على أطراف الكلمات، كمن يلامس شيئًا يعرفه جيدًا لكنه لا يستطيع الإمساك به. كأن الحروف هنا ليست لتُقرأ، بل لتُستشعر. كل نصّ يشبه نافذة تُطلّ منها الذاكرة على حكايات منسية، وعلى قلق دفين يسكن الذين لم يعودوا حيث ينتمون، ولم يصلوا تمامًا حيث وُجدوا.

"أقرب من البعيد بقليل" ليس مجرد عنوان، بل لغز صغير يُشبه ما نشعر به حين لا نجد الكلمات لشرح حنينٍ مقيمٍ فينا.
هذا الكتاب، الذي يحمل اسم أحد نصوصه، هو محاولة أدبية شجاعة لالتقاط كل ما لا يُمكن الإمساك به: روائح الجدات، حزن الأمهات، غبار الطرقات البعيدة، وصمت الذين لا يعودون.

في نصّه الثالث عشر مثلًا، يكتب عن جدةٍ تشبه فلسطين، امرأة لا تُجادَل، ويختمه بجملة بسيطة وعميقة: "من أنا لأصحّح لجدتي ما تقول؟"
وهنا، تتجلّى عبقرية الكاتب في أن يختصر وطنًا بأمّ، وتاريخًا بعبارة.

لا يتكلف اللغة، ولا يُغرِق في الرمزية، بل يكتب ببساطة من عاش الألم، لا من قرأ عنه. النصوص قصيرة، لكنها تقف على حافة القلب، كأنها تهمس: "أنا مررت من هنا.. مثلك تمامًا."

ما بين محمود درويش وظلاله

تأثر الكاتب بأسلوب محمود درويش ظاهر، لا من حيث الاقتباس، بل من حيث المزاج العاطفي. وأنت تقرأ، يزورك ظلّ درويش أحيانًا، لا كاستعارة، بل كامتداد. يتقارب الأسلوبان في مزج اللغة بالحس، والوطن بالحب، والفقد بالكرامة. لكن المعتصم خلف له صوته، وله موسيقاه الخاصة: صوت شاب وُلد في دمشق، وحمل فلسطين في قلبه، وتعلّم الحقوق في بيروت، لكنه آمن بالكلمات أكثر من القوانين.

ما يجعل هذا الكتاب مختلفًا

اللافت في هذا الكتاب هو قدرة الكاتب على تجسيد الأحاسيس.. تصفّح صفحاته يُشبه دخول بيت قديم تفوح منه رائحة الخبز والغياب.. يتحدث عن الموت كمن رأى وجهه، وعن الحب كمن خبّأه في جيبه الخلفي.

المعتصم خلف لا يكتب نصوصًا عابرة، بل يترك فيها شيئًا منك، وكأنه يعرفك أو يشبهك. لغته مشبعة بالحزن، لكن دون بكاء.. شاعرية صامتة، عميقة، لا تحتاج إلى صوت عالٍ لتكون حاضرة.

الكتاب مقسوم إلى "تراتيل وجودية" و"بكائية الغد العائد"، وهما عنوانان يختصران بذكاء مزاج النصوص: مزيج من التأمل، الحنين، التوهان، والسؤال المفتوح عن الحياة، الوطن، الذات، والزمن الذي نعيشه ولا يشبهنا.

ما يميز هذا الكتاب أنه لا يحاول أن يكون عظيمًا، لكنه يُصيب القلب مباشرة. لا يستعرض، ولا يتكلف، بل يكتب ببساطة من عاش، لا من قرأ. وفي هذا الصدق تحديدًا يكمن جماله.

وأستطيع القول إن الكتاب تركني أمام مرآة، لا أعكس فيها ملامحي، بل ظلًّا لأيام لم أعد أعيشها.
أعاد ترتيب الحنين في قلبي، وذكّرني أن بعض البُعد ليس مسافة، بل شعور، وأن القرب أحيانًا لا يُقاس بخطوة بل بكلمة.

قراءته لا تُشبعك، بل تُجوّعك إلى نفسك، إلى بيت لم يعد بيتًا، إلى لحظات كانت ولم تعد.. وهذا وحده كافٍ لأن يجعل هذا الكتاب أقرب من البعيد بقليل.