أشدّ الخراب.. ما لا يُرى

أشدّ الخراب.. ما لا يُرى

قرابة ثلاثين عامًا، جلس حافظ الأسد على عرشٍ لم يُنتخب له، لكنه أعاد تشكيل ذاكرة البلاد على مقاس صوته وخوفه. زوّر تاريخنا، شَوّه حاضرنا، وركّب نظامًا يطحن الإنسان منذ طفولته حتى كهولته. غسل العقول، دبّج الكتب، وسلّح المعلمين بـ"عقيدة القائد" بدل أن يسندهم بعقيدة وطن. زرع الطائفية في وجدان الأفراد حتى أصبحت مع الوقت شعورًا دفينًا يصعب اقتلاعه، وتوارثته الأجيال كجزءٍ من هوية وطن ممزّق. لكن، ورغم فظاعة تلك الحقبة، لم تكن أسوأ ما مرّ علينا، لكنها كانت البداية للخراب الكبير والانهيار الكامل

في ظلّ نظام الأسد الابن.. كان الانهيار الكامل.

أنا لا أتحدث هنا عن المعتقلين ولا الإعدامات، لا عن الجوع ولا عن الشتات.. أنا أتحدث عن "تشوّه الوعي"، عن الكارثة التي ضربت الجذور لا السطح. في ظلّ هذا النظام، تربّى الشبيح على التشبيح دون رادع. سرق الحرامي دون أن يخاف من قاضٍ أو محكمة. قاتل القاتل بلا ندم، لأن الدم صار أرخص من الصمت. الخاطف أدمن الخطف، والحاقد تشرّب الحقد، والطائفي صار يرى وطنه على مقاس طائفته.
كلّ هؤلاء، تعلّموا كيف يعيشون خارج القانون.

سنوات طويلة من "الحياة الساقطة" بلا دولة، بلا حساب، بلا ضمير.. فكيف تتخيّل أن تعيدهم إلى مربع المواطنة فجأة؟ كيف تطلب من هؤلاء أن يؤمنوا بالقانون بعدما عاشوا عقودًا يحتمون بغيابه؟ والكارثة الأكبر.. أن بشار الأسد لم يُخرّب فقط أتباعه، بل حتى البعض ممن ثاروا ضده، علّمهم -بقسوة الواقع- أن يعيشوا بلا مرجعية دولة، بلا مؤسسات، بلا عدالة. جعل "أخذ الحق باليد" عادة. جعل "اللايقين" هو النظام الوحيد الذي يمكن الوثوق به.

سنوات من الانفصال عن فكرة الدولة، كافية لتجعل الحلم بها يبدو مثاليًا، بعيدًا، ووعر الطريق جداً.

مشكلتنا ليست في الحرب فقط، ولا في الاتفاقات، ولا حتى في شكل الدولة القادمة. مشكلتنا أعمق.. إنها في "تشوّه الإنسان".

الشيطان، يوسوس لك مرة. أما بعدها.. فأنت تُكمل الطريق وحدك. تمشي على خُطاه من تلقاء نفسك، دون أن تشعر، دون أن تسأل، دون أن تندم.

أما هو؟
فقد أنهى مهمّته.. وجلس في أقصى الأرض، يعيش بأرقى المنازل، ويُطالع أخبار الخراب الذي لم يعد بحاجة لأن يشارك في صنعه.

واليوم نسأل..

كيف تُشفى الروح من أعوام طويلة من التشوّه؟
كيف نستطيع أن نعيد بناء وطنٍ، حين أصبح الخراب فينا قبل أن يكون من حولنا؟

ربما لن تُحل مشكلتنا بدولة جديدة، بل بإنسان جديد.. إنسان يختار أن يكون مختلفًا.