"قيصر".. حمل للعالم صوت من رحلوا بصمت تحت التعذيب في سجون نظام الأسد

"قيصر".. حمل للعالم صوت من رحلوا بصمت تحت التعذيب في سجون نظام الأسد

"كيف يعيش من رأى الجحيم؟

أن توثق جريمة هو أمر صعب.. لكن أن توثق جريمة بحجم وطن، أن تحمل على كتفيك صوراً من العذاب والموت، أن ترى آلاف الوجوه التي أُزهقت أرواحها ظلماً، ثم تُجبر على الصمت لسنوات، هذا هو العذاب الحقيقي."

هذا ما كتبه أنس الشاغوري تعليقاً على الظهور الأول لـ "قيصر".

أكتب اليوم عن قيصر.. ليس قيصر الذي عرفه التاريخ القديم، بل عن قيصر سوريا الذي قدم للعالم وثائق تاريخية وأحد أهم الأدلة على أحقية ثورتنا العظيمة ضد أكثر الأنظمة إجراماً في تاريخ البشرية.

قيصر.. صاحب أكبر عملية تسريب صور لجـثـ.ـث أشخاص تعرضوا للتـعـ.ـذيب في سجون ومراكز اعتقال داخل سوريا في عهد نظام الأسد، وهي الخطوة التي أسهمت بشكل مباشر في إضعاف نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، سياسياً واقتصادياً عبر ما يُعرف بـ"قانون قيصر".

جلست أمس، بتاريخ 06 شباط/فبراير 2025، أنتظر الحلقة الخاصة من برنامج "للقصة بقية" على قناة الجزيرة، والتي سيظهر فيها قيصر للمرة الأولى أمام العالم بشخصيته واسمه الحقيقيين. الحلقة كانت من تقديم الصحفية المتألقة فيروز زياني، والتي لا بد من الثناء عليها لإبداعها في صنع حلقة مميزة سيخلدها التاريخ.

أعود بذاكرتي للأيام الأولى بعد سقوط النظام، وأذكر حينما ظهرت أمامي على وسائل التواصل الاجتماعي وثيقة تثبت معرفة النظام السوري بشخصية قيصر الحقيقية، وهو المساعد الأول في الشرطة العسكرية فريد المذهان.

اللحظات التي سبقت بداية حلقة "للقصة بقية" كانت مليئة بالتوتر.. هل فعلاً هو فريد المذهان؟. عقلي يكاد يجزم أنه هو، فلا يمكن لنظام الأسد إلا أن يعرفه، فمخابراته كانت تتوغل فيما بيننا، ونعيش على وقع جملة "الحيطان إلها آذان" في إشارة إلى أن النظام يعلم كل تحركاتنا ويسمع كل ما نقوله، وهو فعلياً لا يحتاج سوى ربط المعلومات ببعضها بطريقة مبسطة ليكشف حقيقة قيصر.

بدأت الحلقة.. قيصر هو المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق. ينحدر من مدينة درعا، وكان يسكن في مدينة التل بريف دمشق.

بدا لي للوهلة الأولى أنه يشبهنا نحن السوريون جميعاً، أو كما نقول بالعامية "منا وفينا". إنسان بلا رتوش، بسيط يشبهنا بحركاته وعيونه الدامعة، بحزنه الواضح على وجهه، بطريقة كلامه التي تمزج البساطة بالوعي، بحبه لوطنه. يشبهنا نحن الذين آمنا بالثورة ومبادئها منذ لحظاتها الأولى دون أن نتخلى عنها يوماً.

أشاهد الحلقة وأتأمل كل التفاصيل، وأذكر ملامح صديقه وشريكه في تهريب الصور أسامة عثمان المعروف باسم "سامي"، أثناء مقابلة سابقة على منصة أثير التابعة لقناة الجزيرة أيضاً. يبدو المذهان اليوم كصديقه سامي، وجهيهما ينمان عن كمية قهر وتعب ورعب كبيرين ألفاه على مدى سنوات، ومستوى مسؤولية حملاها على عاتقيهما لخدمة أهم ملف من الملفات التي قصمت ظهر نظام الأسد دون رصاص ومهدت لسقوطه الحتمي خلال سنوات.

يحاول قيصر طوال الحلقة أن يؤكد لنا ما عمل عليه خلال السنوات الماضية.. الإنسان أولاً يجب أن يكون إنساناً حتى لو كان يعيش تحت جنح الشيطان. ويتابع في حديثه الذي امتد لـ51 دقيقة دون أية كلمة طائفية، ولا دعوة لانتقام، ولا ابتزاز، ولا كلمات نرجسية أو مزاودة. يتابع وهو يحلم بسوريا وطن لكل السوريين، رغم ملامحه الموجعة التي تؤكد أن صور الضحايا تطارده يومياُ ويعيش داخل صراع إنساني تعود جذوره لسنوات.

أتخيله وهو يوثق الصور وفي رأسه سؤال وجودي: "متى سأنشق؟ هل علي تحمل المزيد أم أني تأخرت؟ هل سيغفر لي السوريون أرشفة صور أبنائهم وهم جثث مشوهة؟" وأقع في حيرة وتساؤلات عن كيف استطاع بكل ما يحمله من إنسانية داخل نفسه تحمل كل هذه الصور والعمل تحت كل هذا الضغط، ثم قرر أن يحمل كل تلك الصور ليثبت للعالم أن هناك ضحايا والمجرم معروف؟!

مع كل كلمة ينطقها، كنت أتخيل آهات المعتقلين ولحظاتهم الأخيرة قبل أن يوثقها قيصر بعدسته ويعيش معها ليالي طويلة من العذاب ليحفظها ويعمل على تسريبها.

قيصر كان يتحدث كأنه أدى واجبه لا أكثر.. ونحن السوريون نراه بطلاً قدم أهم ملف حقوقي في تاريخ الثورة السورية.

"ولك أن تفخر في ذلك ولأسرتك أن تفخر بذلك، أنت تشبه فعلاً الشعب السوري، أنت من طينة هذه الأرض الطيبة ومن شعبها الطيب، وأنت تشبههم في لجوئك ومعاناتك وآلامك وكل ما عاشه السوريون"، هذا ما قالته الإعلامية فيروز أثناء مقابلتها للقيصر فريد المذهان، ابن مهد الثورة السورية درعا، في نهاية مقابلتها.

فريد المذهان (قيصر) أو بلقبه الجميل أبو معتز ابن درعا، وأسامة عثمان (سامي) ابن مدينة التل، حفظا أرشيفاً مهماً من أجل محاسبة المجرمين مستقبلاً، ولأجل ذلك عاشوا حياة مؤلمة داخل سوريا وصعبة قاسية خارجها.

بعض ما ورد في لقاء فريد المذهان المعروف باسم "قيصر" في مقابلته مع قناة الجزيرة:

  • أوامر التصوير وتوثيق جرائم النظام تصدر من أعلى هرم السلطة للتأكد من أن القتل ينفذ فعلياً.

  • قادة الأجهزة الأمنية كانوا يعبرون عن ولائهم المطلق لنظام الأسد عبر صور جثث ضحايا الاعتقال.

  • أول تصوير لجثث معتقلين كان بمشرحة مستشفى تشرين العسكري لمتظاهرين من درعا في آذار 2011.

  • الموقوف بمجرد دخوله المعتقل يُوضع رقم على جثته بعد قتله.

  • أماكن تجميع وتصوير جثث ضحايا الاعتقال كانت في مشرحة مستشفيي تشرين العسكري وحرستا.

  • تحويل مرآب السيارات في مستشفى المزة العسكري لساحة تجميع الجثث لتصويرها مع ازدياد عدد القتلى.

  • في بداية الثورة السورية، كان عدد الجثث من 10 إلى 15 يومياً لتصل إلى 50 في اليوم.

  • النظام كان يكتب أن سبب وفيات من قتلهم هو توقف القلب والتنفس.

  • عمليات ابتزاز ممنهجة مورست ضد الآلاف من أهالي المعتقلين دون الحصول على أي معلومات.

  • قرار الانشقاق كان لدي منذ بداية الثورة لكن أجلته لأتمكن من جمع أكبر عدد من الصور والأدلة.

  • كنت أخبئ وسائط نقل الصور في ثيابي وربطة الخبز وجسدي خوفاً من التفتيش على الحواجز الأمنية.

  • خرجت عبر الأردن إلى دولة قطر، وهناك قام مكتب محاماة بتجهيز ملفي من أجل محاسبة النظام السوري.

  • كنت أملك هوية رسمية عسكرية وهوية مدنية مزورة للتنقل بين مقر عملي بدمشق وإقامتي في مدينة التل.

  • عملية تهريب الصور كانت تتم بشكل شبه يومي من مقر عملي في دمشق إلى مقر سكني بمدينة التل.

  • كنت أتعرض للتفتيش في مناطق سيطرة النظام وفي منطقة سيطرة الجيش الحر.