لا أحد يحتكر الألم.. لكل سوري نكبته

يتحدث أحد أقاربي عن معاناتهم الطويلة تحت حكم نظام الأسد، ويصف ما عاشوه من قهرٍ ومآسٍ طيلة سنوات الثورة في الداخل السوري. لا أشكّ أبدًا في حجم الوجع الذي عايشوه. فأنا أيضًا كنت هناك. خرجت بعد اندلاع الثورة بعدة سنوات، عشت خلالها تحت القصف، وعانيت النزوح والتشرد والجوع والإهانة والذل والقهر والفقر. عشت مطاردة، خائفة من انكشاف نشاطي في الثورة، ما كان حتمًا سيقودني إلى الموت، ونجوت من الاعتقال مرات عديدة، لكنه كان يلوّح لي في كل زاوية. ومنذ خروجي، بقيت عيناي على سوريا وأذناي في قلب أهلي، أتابع كل تفصيل، وأشعر بكل ألم.
لكنني اليوم أقف أمام هذا الاستعلاء المتكرر من البعض، وكأن من اختار اللجوء قد هرب من الألم إلى النعيم، وكأن وجعه لا يُقارن، أو لا يُحسب.
في كل حديث عن المعاناة، يُقلل من وجعنا، يُستخفّ بما ذقناه، ويُرمى على أكتافنا ثقل المقارنة القاسية: "نحن في الداخل عشنا الجحيم، وأنتم هناك في الخارج تنعّمتم بالراحة."
لكن، هل تعرفون حقًا ما عاشه اللاجئون؟
إليكم شيئًا من الذاكرة، من القلب، ومن الواقع:
هل تعرفون كم ليلة نمتها وأنا أبكي وجع البُعد، وغربة الروح، في عامي الأول في بلاد اللجوء، أعمل في المعامل 12 ساعة يوميًا، وأحيانًا 18، مقابل أجر لا يكفي لسد جزء بسيط من احتياجات العائلة؟
هل تعرفون كم مرة مشيت عشرات الكيلومترات لأنني لا أملك ثمن أجرة الباص؟
هل اختبرتم أن تخافوا من الخروج إلى الشارع لأن ملامحكم "غريبة"، ولأن الكراهية والعنصرية ضد السوريين كانت تُطاردنا كأننا عبء على الأرض؟
هل ودّعتم أهلكم ذات ليلة ولم تعودوا تروهم منذ سنوات طويلة، وتعيشون شوقهم في صمتٍ يومي، مع كل وجبة طعام وكل لحظة فرح ناقصة؟
هل سألتم أنفسكم كم مرة اضطررت لأكل الخبز اليابس أو الزعتر المبلول بالماء لأن الجيب خاوٍ واليد قصيرة؟
هل جرّبتم أن تعيشوا بلا أوراق ثبوتية، بلا إقامة قانونية، بلا حماية، وأنتم مهددون بالطرد أو الترحيل في أي لحظة إلى بلدكم، حيث الاعتقال بانتظاركم؟
هل تعرفون طعم القلق حين يمرض أبي أو تتعب أمي، وأنا لا أملك القدرة حتى على زيارتهم أو احتضانهم؟
هل عملتم في مهن لا تليق بقدراتكم ولا بأحلامكم، فقط لأنكم لاجئون؟
هل تعلمون أن آلاف اللاجئين – ومن بينهم إخوتي – خسروا تعليمهم، مستقبلهم المهني تحت وطأة الغربة والإقصاء؟
هل سمعتم عن الذين فقدوا أبناءهم، وبينهم أصدقائي، تحت عجلات البحر أو في فصول الشتات، بحثًا عن مأوى لم يجدوه؟
هل جرّبتم أن تُعامَلوا دومًا على أنكم "غرباء"، حتى لو قضيتم سنوات طويلة في البلد الجديد، أو حتى حصلتم على جنسيته؟
هل اختبرتم نظرات الشفقة حين يعرف الآخر أنك لاجئ؟ أو الأسوأ من ذلك: نظرات الاتهام؟
هل مررتم بمرارة أن تكون شهاداتكم ومهاراتكم بلا قيمة، لأنكم لا تحملون "الإقامة المناسبة"، أو لا تتقنون لغة البلد كلغة أم؟
هل جربتم أن تُرفضوا من وظيفة مرارًا، فقط لأن اسمكم عربي، أو لأن لهجتكم مختلفة؟
هل عايشتم فقدان اللغة؟ أن تقفوا أمام موظف أو طبيب أو حتى بائع، وتعجزوا عن التعبير عن وجعكم أو حاجتكم؟
هل عشتم مشاعر الذنب لأنكم تعيشون في مكان "آمن نسبيًا"، بينما أهلكم أو أصدقاؤكم ما زالوا تحت القصف أو الجوع أو الحصار؟
هل شعرتم بالتمزق الداخلي بين حنينكم إلى الوطن، ومحاولاتكم للتأقلم في بلاد لا تشبهكم؟
هل مررتم بخيبات الاندماج، حين تبذلون جهدًا مضاعفًا لإثبات أنفسكم، ثم تقفون دائمًا على هامش المجتمع؟
هل جربتم العجز أمام أطفالكم، وأنتم لا تستطيعون منحهم هوية مستقرة أو مستقبلًا واضحًا؟
هل سمعتم أطفالًا يسألونكم: "ليش نحنا ما إلنا بلد؟"، وبقي الجواب عالقًا في الحلق؟
هل جربتم صعوبة تربية أطفالكم في بلد لا يشبهكم؟ أن تحاولوا حمايتهم من الذوبان في مجتمع يحمل مفاهيم وقناعات لا تشبه قيمكم ولا دينكم، أن توازنوا بين اندماجهم وحفاظهم على هويتهم؟ أن تشرحوا لهم مفردات لا تؤمنون بها، أو تردّوا على أسئلة لا تُسأل في ثقافتكم؟ أن تشعروا بالعجز حين يتحدث طفلكم بلغةٍ لا تفهمونها تمامًا، أو حين تتسرّب مفاهيم غريبة إلى عقله من المدرسة أو الشارع أو الشاشة، ولا تملكون دائمًا القدرة على "الشرح البديل"؟.. في اللجوء، لا نربّي أبناءنا فقط.. نحن نحاول أن نُنقذهم من فقدان ما تبقّى فيهم منا.
هل جرّبتم أن تعيشوا حياة الترحال داخل بلد اللجوء ذاته، لا لأنكم تريدون، بل لأنكم مضطرون؟ أن تنقلوا من بيت إلى آخر بسبب الإيجارات التي ترتفع فجأة، أو لأنكم لم تعودوا قادرين على دفعها؟ أن تبنوا استقرارًا هشًّا يُهدم كل عام أو أقل، لأن منطق اللجوء لا يعترف بجذرٍ ثابت؟
هل اختبرتم أن تمر السنوات دون أن تستطيعوا ادخار شيء للمستقبل؟ لا بيت، لا مدخرات، لا أمان مالي.. فقط عملٌ لتأمين يومكم، دون يقين بالغد. نحيا على حافة القلق، نخشى المرض، نخشى البطالة، نخشى أي طارئ بسيط لأننا لا نملك وسادة أمان، فقط قلوب منهكة تقاوم كي لا تنهار.
هل جربتم أن يُعتقل صديقكم دون سبب، في بلد لجأتم إليه طلبًا للأمان؟ أن تستيقظوا على خبر اقتياده من الشارع أو من أمام منزله، دون أن تعرفوا الجهة، أو السبب، أو المدة؟ أن تركضوا من منظمة إلى أخرى، ومن محامٍ إلى جهة حقوقية، تبحثون عن إجابة، أو حتى مجرد معلومة تطمئن القلب؟ أن تعيشوا قلقه وقلق أهله في كل ساعة تمر؟
هل تعرفون كم مرة بكيت دون سبب واضح؟ فقط تلك التراكمات والضغوط النفسية التي أتحملها رغماً عني؟
هل تدركون ما أعيشه اليوم من أزمات نفسية، نتيجة كل ما مررت به في بلاد اللجوء التي تعتقدون أنها بلاد "النجاة"؟
هل جربتم أن تكبروا وحدكم، أن تمر السنوات وتجدوا أنفسكم أشخاصًا مختلفين عن عائلاتكم، غريبي الروح واللغة والمفاهيم والمعتقدات والأفكار؟
هل جربتم كل هذا.. ثم طُلب منكم أن "لا تبالغوا"، لأنكم في بلاد اللجوء.. في بلاد يظنّ من بقي في الوطن أنها بلاد النجاة؟
والآن أود القول أن كل ما ذكرته هنا، هو مجرد لمحات، فتات من وجعنا اليومي، لا يختصر كل ما عشناه ولا كل ما نحياه. فمعاناة اللجوء لا تُروى كاملة، لأنها تتوزع على تفاصيل الحياة، في التعب، في الخوف، في الشعور المستمر بأنك طارئٌ على المكان والزمان.
وأنا لست هنا لأُزايد على أحد، ولا لأقلل من وجع أي سوري، لكنني أقول بكل وضوح: لا يحق لأحد أن يحتكر الألم. كل منا دفع ثمن خياره، سواء في البقاء أو في الهجرة. والمعاناة لا تُقاس بميزان المقارنات. فالنار تحرق في كل مكان، لكنها تتخذ شكلاً مختلفًا.
هناك من عاش الجحيم تحت القصف وتحت حكم نظام الأسد، وهناك من ذاب صمتًا تحت ثقل الغربة. كلاهما موجوع، وكلاهما يستحق الاحترام.
نعم، هناك سوريون نالوا فرصة حياة مريحة في الخارج، لكنني – والآلاف مثلي – لسنا منهم. نحن الذين نجاهد في كل صباح كي نستمر، نحمل وجعين في قلبٍ واحد: وجع الوطن، ووجع المنفى.
واليوم، نحن نعرف كم أن الوضع في الوطن قاسٍ، نراه، نسمعه، ونشعر به في كل صوت يصلنا من هناك، لكن، كل الذين قالوا لنا: "أنتم عايشين برّا، ارتحتوا"، كانوا في الواقع يعيشون ظروفًا أفضل من ظروفي في الخارج، بينما أنا – رغم معرفتي الكاملة بوجع الداخل – أقول اليوم بثقة: كلنا عانينا، لكن كلٌ على طريقته، ولكل منا وجعه المختلف.
لذا، كفّوا عن المزاودة. لا تضعوا معاناة أحد تحت أقدام معاناتكم. دعونا نحترم بعضنا، فكرامة الوجع ألا يُحتقَر.
وتذكروا دوماً..
نحن لم ننجُ.. نحن فقط خرجنا بحطامنا
ووجعنا لا يقل عن وجعكم.. فقط لونه مختلف